فصل: فَصْــل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  فَصْــل

وذلك أن ما جاء به الرسول هو من علم الله‏.‏ فما أخبر به عن الله، فالله أخبر به، وهوـ سبحانه ـ يخبر بعلمه ـ يمتنع أن يخبر بنقيض علمه وما أمر به فهو من حكم الله‏.‏ والله عليم حكيم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏، قال الزجاج‏:‏ أنزله وفيه علمه‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقى‏:‏ أنزله من علمه‏.‏ وهكذا ذكر غيرهما‏.‏

وهذا المعنى مأثور عن السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال‏:‏ أقرأنى أبو عبد الرحمن القرآن‏.‏ وكان إذا أقرأ أحدنا القرآن قال‏:‏ قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ وكذلك قالوا في قوله تعالى ‏{‏فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ‏}‏ ، قالوا‏:‏ أنزله وفيه علمه‏.‏

/ قلت‏:‏ الباء قد تكون للمصاحبة، كما تقول‏:‏ جاء بأسياده وأولاده‏.‏ فقد أنزله متضمنًا لعلمه، مستصحبًا لعلمه‏.‏ فما فيه من الخبر هو خبر بعلم الله‏.‏ وما فيه من الأمر فهو أمر بعلم الله، بخلاف الكلام المنزل من عند غير الله‏.‏ فإن ذلك قد يكون كذبا وظلمًا كقرآن مسيلمة، وقد يكون صدقا لكن إنما فيه علم المخلوق الذي قاله فقط، لم يدل على علم الله ـ تعالى ـ إلا من جهة اللزوم‏.‏ وهو أن الحق يعلمه الله‏.‏

وأما القرآن فهو متضمن لعلم الله ابتداء‏.‏ فإنما أنزل بعلمه لا بعلم غيره، ولا هو كلام بلا علم‏.‏

وإذا كان قد أنزل بعلمه فهو يقتضي أنه حق من الله، ويقتضي أن الرسول، رسول من الله ـ الذي بين فيه علمه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏[‏الشاهد‏]‏ المبين لما شهد به، والله يبين ذلك ويعلم مع ذلك أنه حق‏.‏

قلت‏:‏ قـولـه‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ‏}‏، شهادتـه هـو بيانـه وإظهاره دلالتـه وإخبـاره‏.‏ فالآيـات البينات التي بين بها صـدق الرسول تدل عليه ـ ومنها القرآن ـ هو شهادة بالقول‏.‏

وهو في نفسه آية ومعجزة تدل على الصدق كما تدل سائر الآيات، والآيات كلها شهادة من الله، كشهادة بالقول، وقد تكون أبلغ‏.‏

ولهذا ذكر هذا في سورة هود لما تحداهم بالإتيان بالمثل فقال‏:‏ /‏{‏فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13 ،14‏]‏‏.‏ فإن عجز أولئك عن المعارضة، دل على عجز غيرهم بطريق الأولي، وتبين أن جميع الخلق عاجزون عن معارضته، وأنه آية بينة تدل على الرسالة وعلى التوحيد‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏‏.‏

بعد قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136،135‏]‏، وقد ذكروا أن من الكفار من قال‏:‏ لا نشهد لمحمد بالرسالة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَّ‏}‏‏.‏

وأحسن من هذا أنه لما قال‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏، نفي حجة الخلق على الخالق فقال‏:‏ لكن حجة الله على الخلق قائمة بشهادته بالرسالة، فإنه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه فما للخلق على الله حجة، بل له الحجة البالغة‏.‏ وهو الذي هدي عباده بما أنزله‏.‏

وعلى ما تقدم فقوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏، أي‏:‏ فيه علمه بما كان وسيكون وما أخبر به، وهو ـ أيضًا ـ مما يدل على أنه حق‏.‏ فإنه إذا أخبر بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، دل على أن الله أخبره به،/كقوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏ الآية ‏[‏الجن‏:‏ 26 ،27‏]‏

وقد قيل‏:‏ أنزله وهو عالم به وبك‏.‏ قال ابن جرير الطبري في آية النساء‏:‏ أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه‏.‏

وذكر الزجاج في آية هود قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنزله وهو عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده‏.‏ والثاني‏:‏ أنه أنزله بما أخبر فيه من الغيوب، ودل على ما سيكون وما سلف‏.‏

قلت‏:‏ هذا الوجه هو الذي تقدم‏.‏

وأما الأول فهو من جنس قول ابن جرير‏.‏ فإنه عالم به وبمن أنزل إليه وعالم بأنه حق، وأن الذي أنزل عليه أهل لما اصطفاه الله له‏.‏ ويكون هذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏، وقول من قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏78‏]‏، أي‏:‏ على علم من الله باستحقاقي‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الوجه يدخل في معنى الأول فإنه إذا نزل الكلام بعلم الرب، تضمن أن كل ما فيه فهو من علمه، وفيه الإخبار بحاله وحال الرسول‏.‏ وهذا الوجه هو الصواب‏.‏ وعليه الأكثرون، ومنهم من لم يذكر غيره‏.‏

/ والأول - وإن كان معناه صحيحًا - فهو جزء من هذا الوجه‏.‏

وأما كون الثاني هو المراد بالآية فغلط؛ لأن كون الرب - سبحانه - يعلم الشيء لا يدل على أنه محمود ولا مذموم‏.‏ وهو - سبحانه - بكل شيء عليم‏.‏ فلا يقول أحد‏:‏ إنه أنزله وهو لا يعلمه‏.‏

لكن قد يظن أنه أنزل بغير علمه، أي‏:‏ وليس فيه علمه، وأنه من تنزيل الشيطان، كما قـال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221 ،222‏]‏‏.‏ والشياطين، هو يرسلهم وينزلهم، لكن الكلام الذي يأتون به ليس منزلا منه ولا هو منزل بعلم الله، بل منزل بما تقوله الشياطين من كذب وغيره‏.‏

ولهذا هو - سبحانه - إذا ذكر نزول القرآن، قيده بأن نزوله منه، كقوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏1‏]‏، ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏

وهذا مما استدل به الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق خَلَقَه في محل غيره، فإنه كان يكون منزلا من ذلك المحل لا من الله‏.‏ وقال‏:‏ إنه نزل بعلم الله، وإنه من علم الله، وعلم الله غير مخلوق‏.‏

/ وقال أحمد‏:‏ كلام الله من الله ليس شيئان منه‏.‏ ولهذا قال السلف‏:‏ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏ فقالوا‏:‏ منه بدأ لم يبدأ من غيره، كما تقوله الجهمية‏.‏ يقولون‏:‏ بدأ من المحل الذي خلق فيه‏.‏ وهذا مبسوط في مواضع‏.‏

والمقصود أنه إذا كان فيه علمه فهو حق، والكلام الذي يعارضه به خلاف علم الله فهو باطـل، كالشرك الـذي قـال الله - تعالى - فيه‏:‏ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

 فصـــل

وهذا الذي ذكرته من أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة، كما بينته من أن الكتاب بَيّنَ الأدلة العقلية التي بها تعرف المطالب الإلهية، وبَيَّن ما يدل على صدق الرسول في كل ما يقوله هو يظهر الحق بأدلته السمعية والعقلية‏.‏

وبَيَّن أن لفظ ‏[‏العقل والسمع‏]‏ قد صار لفظًا مجملا‏.‏ فكل من/وضع شيئًا برأيه سماه ‏[‏عقليات‏]‏، والآخر يبين خطأه فيما قاله ويدعي العقل - أيضًا، ويذكر أشياء أُخر تكون - أيضًا - خطأ، كما قد بسط في مواضع‏.‏

وهو نظير من يحتج في السمع بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو نصوص ثابتة لكن لا تدل على مطلوبه‏.‏

وكثير من أهل الكلام يجعل دلالة القرآن والأحاديث من جهة الخبر المجرد‏.‏ ومعلوم أن ذلك لا يوجب العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر‏.‏ فلهذا يضطرون إلى أن يجعلوا العلوم العقلية أصلا، كما يفعل أبو المعالى، وأبو حامد، والرازي، وغيرهم‏.‏

وأئمة المتكلمين يعترفون بأن القرآن بَيَّن الأدلة العقلية، كما يذكر ذلك الأشعري وغيره، وعبد الجبار بن أحمد وغيره من المعتزلة‏.‏

ثم هؤلاء قد يذكرون أدلة يجعلونها أدلة القرآن ولا تكون هي إياها، كما فعل الأشعري في ‏[‏اللمع‏]‏ وغيره، حيث احتج بخلق الإنسان، وذكر قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58 ،59‏]‏، لكن هو يظن أن النطفة فيها جواهر باقية، وأن نقلها في/الأعراض يدل على حدوثها، فاستدل على حدوث جواهر النطفة‏.‏

وليست هذه طريقة القرآن،ولا جمهور العقلاء،بل يعرفون أن النطفة حادثة بعد أن لم تكن، مستحيلة عن دم الإنسان، وهي مستحيلة إلى المضغة،وأن اللّه يخلق هذا الجوهر الثاني من المادة الأولي بالاستحالة ويعدم المادة الأولي - لا تبقي جواهرها بأعيانها دائمًا، كما تقدم‏.‏

فالنظار في القرآن ثلاث درجات، منهم من يعرض عن دلائله العقلية‏.‏ ومنهم من يقر بها لكن يغلط في فهمها‏.‏ ومنهم من يعرفها على وجهها‏.‏ كما أنهم ثلاث طبقات في دلالته الخبرية؛ منهم من يقول لم يدل على الصفات الخبرية، ومنهم من يستدل به على غير ما دل عليه‏.‏ ومنهم من يستدل به على ما دل عليه‏.‏

والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية‏.‏ أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا، ومن هؤلاء أصولا عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة‏.‏ فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية‏.‏ ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية، كأبي المعالى وأتباعه‏.‏ ومنهم من سلك مسلكهم كأئمة أصحابهم، كما قد بسط في مواضع‏.‏

إذًا المقصود - هنا - أن جعل القرآن إمامًا يؤتم به في أصول الدين / وفروعه هو دين الإسلام‏.‏ وهو طريقة الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين‏.‏ فلم يكن هؤلاء يقبلون من أحد قط أن يعارض القرآن بمعقول أو رأي يقدمه على القرآن‏.‏ ولكن إذا عرض للإنسان إشكال، سأل حتى يتبين له الصواب‏.‏

ولهذا صنف الإمام أحمد كتابًا في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله‏]‏‏.‏

ولهذا كان الأئمة الأربعة وغيرهم يرجعون في التوحيد والصفات إلى القرآن والرسول، لا إلى رأي أحد، ولا معقوله، ولا قياسه‏.‏

قال الأوزاعي‏:‏ كنا - والتابعون متوافرون - نقول‏:‏ إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ لا يوصف اللّه إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث‏.‏

وقال الشافعي في خطبة ‏[‏الرسالة‏]‏‏:‏ الحمد للّه الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه‏.‏

وقال مالك‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به / واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ وكان يكره ما أحدث من الكلام‏.‏ وروي عنه وعن أبي يوسف‏:‏ من طلب الدين بالكلام تزندق‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال‏:‏ هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام‏.‏ وقال‏:‏ لقد اطلعت مـن أهـل الكـلام على شيء ما كنت أظنه، ولأن يبتلى العبـد بكل ذنب ـ مـا خـلا الشـرك باللّه ـ خير له من أن يبتلى بالكلام‏.‏

وقد بُسِط تفسير كلامه وكلام غيره في مواضع، وبُيِّن أن مرادهم بالكلام هو كلام الجهمية الذي نفوا به الصفات، وزعموا أنهم يثبتون به حدوث العالم، وهي طريقة الأعراض‏.‏

وقـال أحمد ـ أيضًا ـ‏:‏ علماء الكـلام زنادقـة، وما ارتدي أحد بالكـلام فأفلح‏.‏ وكـلام عبد العزيز بن أبي سَلَمَة الماجشون مبسوط في هذا‏.‏

وذكر أصحاب أبي حنيفة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال‏:‏ لا ينبغي لأحد أن ينطق في اللّه بشيء من رأيه، ولكنه يصفه بما وصف به نفسه‏.‏

وقال أبوحنيفة‏:‏ أتانا من خُرَاسان ضيفان كلاهما ضالان‏:‏ الجهمية، والمشبهة‏.‏

/ وعن أبي عصمة قال‏:‏ سألت أبا حنيفة‏:‏ من أهل الجماعة‏؟‏ قال‏:‏ من فَضَّل أبا بكر وعمر‏.‏ وأحب عليًا وعثمان، ولم يُحَرِّم نبيذ الجرَّ، ولم يكفر أحدًا بذنب، ورأي المسح على الخفين، وآمن بالقدر خيره وشره من اللّه، ولم ينطق في اللّه بشيء‏.‏

وروي خالد بن صُبَيْح، عن أبي حنيفة قال‏:‏ الجماعة سبعة أشياء‏:‏ أن يفضل أبا بكر وعمر، وأن يحب عثمان وعليًا، وأن يصلي على من مات من أهل القبلة بذنب، وألا ينطق في اللّه شيئًا‏.‏

قلت‏:‏ قوله في هاتين الروايتين‏:‏ ‏[‏لا ينطق في اللّه شيئًا‏]‏ قد بينه في رواية أبي يوسف، وهو ‏[‏ألا ينطق في اللّه بشيء من رأيه ولكنه يصفه بما وصف به نفسه‏]‏

فهذا ذم من الأئمة لكل من يتكلم في صفات الرب بغير ما أخبر به الرسول‏.‏ فكيف بالذين يجعلون الكتاب والسنة لا يفيد علمًا، ويقدمون رأيهم على ذلك، مع فساده من وجوه كثيرة‏؟‏‏!‏

وروي هشام، عن محمد، عن أبي حنيفة وأبي يوسف - وهو قول محمد - قالوا‏:‏ السنة التي عليها أمر الناس ألا يكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ويخرج من الإسلام، ولا يشك في الدين - يقول الرجل‏:‏ لا أدري أمؤمن أنا أو كافر، ولا يقول بالقدر، ولا يخرج / على المسلمين بالسيف، ويقدم من يقدم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويفضل من فضل‏.‏

وذكروا عن أبي يوسف أنه قال‏:‏ مذهب أهل الجماعة عندنا، وما أدركنا عليه جماعة أهـل الفقـه ممن لم يأخـذ مـن البدع والأهواء، ألا يشتم أحدًا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر فيهم عيبا، ولا يذكر مـا شجر بينهم فيحرف القلوب عنهم، وألا يشك بأنهم مؤمنـون، وألا يكفر أحـدًا مـن أهل القبلة ممن يقر بالإسلام ويؤمن بالقرآن، ولا يخرجه مـن الإيمان بمعصية إن كـانت فيـه، ولا يقول بقـول أهـل القدر، ولا يخاصم في الدين، فإنها من أعظم البدع‏.‏

فهذا قول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي لأحد أن يقول في هذا كيف ولم‏؟‏ ولا ينبغي أن يخبر السائل عن هذا إلا بالنهى له عن المسألة وترك المجالسة والمشي معه إن عاد‏.‏ ولا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحدًا من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته، مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبة هذا‏.‏

قال‏:‏ والخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة‏.‏ لو كانت فضلا لسبق إليها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوي ولها أبصر‏.‏ وقال /اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏، ولم يأمره بالجدال‏.‏ ولو شاء لأنزل حججًا وقال له‏:‏ قل كذا وكذا‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ دعوا قول أصحاب الخصومات وأهل البدع في الأهواء من المرجئة، والرافضة، والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية‏.‏

قالوا‏:‏ وروي عن محمد قال‏:‏ أبو بكر وعمر أفضل من على‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكر أبو يوسف في أمر الجدال هو يشبه كلام كثير من أئمة السنة - يشبه كلام الإمام أحمد وغيره‏.‏ وفيه بسط وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏

ولهذا كان بشير بن الوليد صاحب أبي يوسف يحب أحمد، ويميل إليه‏.‏ فإن أبا يوسف كان أميل إلى الحديث من غيره‏.‏ واللّه أعلم وأحكم‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه‏:‏

 فصــل

السور القصار في أواخر المصحف متناسبة‏.‏ فسورة ‏{‏اقرأ‏}‏ هي أول ما نزل من القرآن؛ ولهذا افتتحت بالأمر بالقراءة، وختمت بالأمر بالسجود، ووسطت بالصلاة التي أفضل أقوالها وأولها بعد التحريم هو القراءة، وأفضل أفعالها وآخرها قبل التحليل هو السجود؛ ولهذا لما أُمِرَ بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر، لأجل التبليغ فقيل ‏:‏‏{‏له قُمْ فَأَنذِرْ ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏2‏]‏، فبالأولي صار نبيًا، وبالثانية صار رسولا؛ ولهذا خوطب بالمتدثر، وهو المتدفئ من برد الرعب والفزع الحاصل بعظمة ما دهمه لما رجع إلى خديجة ترجف بوادره، وقال دثروني دثروني، فكأنه نهى عن الاستدفاء وأُمِرَ بالقيام للإنذار، كما خوطب في ‏[‏المزمل‏]‏ وهو المتلفف للنوم لما أُمِر بالقيام إلى الصلاة، فلما أُمِر في هذه السورة بالقراءة ذكر في التي تليها نزول القرآن ليلة القدر،وذكر فيها تنزل الملائكة والروح، وفي ‏[‏المعارج‏]‏ عروج الملائكة والروح، وفي ‏[‏النبأ‏]‏ قيام الملائكة والروح‏.‏ فذكر الصعود والنزول والقيام، ثم / في التي تليها تلاوته على المنذرين حيث قـال‏:‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏2 ،3‏]‏‏.‏

فهـذه السور الثلاث منتظمة للقرآن أمرًا به وذكرًا لنزوله ولتلاوة الرسول له على المنـذرين، ثم سورة ‏[‏الزلزلة‏]‏ و‏[‏العاديات‏]‏ و‏[‏القارعة‏]‏ و‏[‏التكاثر‏]‏ متضمنة لذكر اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، وكل واحد من القرآن وإليوم الآخر قيل هو النبأ العظيم‏.‏

ثم سـورة ‏[‏العصر‏]‏ و‏[‏الهمـزة‏]‏ و‏[‏الفيل‏]‏ و‏[‏لإيلاف‏]‏ و‏[‏أرأيت‏]‏ و‏[‏الكوثر‏]‏ و‏[‏الكافرون‏]‏ و‏[‏النصر‏]‏ و‏[‏تبت‏]‏ متضمنة لذكر الأعمال حسنها وسيئها، وإن كان لكلٍ سورة خاصة‏.‏

وأمـا سورة ‏[‏الإخـلاص‏]‏ و‏[‏المعـوذتان‏]‏، ففي الإخـلاص الثناء على اللّه،وفي المعـوذتين دعـاء العبـد ربــه ليعيـذه، والثـناء مقـرون بالـدعـاء، كما قـرن بينهما في أم القـرآن المقسـومـة بين الرب والعبد‏:‏ نصفها ثناء للرب،ونصفـها دعـاء للعبـد، والمناسـبة في ذلك ظاهـرة؛ فـإن أول الإيمـان بالرسـول الإيمـان بمـا جـاء بـه مـن الرسالة وهـو القـرآن، ثم الإيمان بمقصـود ذلك وغايتـه وهـو مـا ينتهي الأمر إليه من النعيم والعـذاب‏.‏ وهـو الجزاء، ثم معـرفة طـريق المقصـود وسببه وهو الأعمال‏:‏ خيرها ليفعل، وشرها ليترك‏.‏

/ ثم ختم المصحف بحقيـقة الإيمان وهـو ذكر اللّه ودعـاؤه، كما بنيت عليه أم القرآن، فـإن حقيقة الإنسان المعنـوية هـو المنطـق، والمنطق قسمان‏:‏ خبر وإنشاء، وأفضل الخبر وأنفعـه وأوجبه ما كان خبرًا عن اللّه كنصف الفاتحة وسورة الإخلاص، وأفضل الإنشاء الذي هـو الطلب وأنفعـه وأوجبـه مـا كـان طلبًا مـن اللّه، كالنصـف الثانـي مـن الفاتحـة والمعوذتين‏.‏

/سُورَة البَـيِّنَة

قَالَ شيخ الإِسلام ـ رحَمهُ اللَّه‏:‏

 فصـل

في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فإن هذه السورة سورة جليلة القَدْر، وقد ورد فيها فضائل‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن اللّه أمر نبيه أن يقرأها على أبي بن كعب‏.‏ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لأبي‏:‏ ‏(‏إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن‏)‏‏.‏ قال‏:‏ آللّه سماني لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آللّه سماك لي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فجعل أبي يبكي‏.‏ وفي رواية أخري‏:‏ ‏(‏إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ سماني لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ فبكى‏.‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ وذكرت عند رب العالمين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ فذرفت عيناه‏.‏ قال قتادة‏:‏ أنبئت / أنه قرأ عليه‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏‏.‏ وتخصيص هذه السورة بقراءتها على أبي يقتضي اختصاصها وامتيازها بما اقتضي ذلك‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏أن أقرأ عليك‏)‏، أي قراءة تبليغ وإسماع وتلقين، ليس هي قراءة تلقين وتصحيح كما يقرأ المتعلم على المعلم، فإن هذا قد ظنه بعضهم، وجعلوا هذا من باب التواضع‏.‏ وجعل أبو حامد هذا مما يستدل به على تواضع المتعلم، وليس هذا بشيء‏.‏ فإن هذه القراءة كان يقرأها على جبريل يعرض عليه القرآن كل عام، فإنه هو الذي نزل عليه القرآن‏.‏

وأما الناس فمنه تعلموه، فكيف يصحح قراءته على أحد منهم، أو يقرأ كما يقرأ المتعلم ‏؟‏

ولكن قراءته على أبي بن كعب كما كان يقرأ القرآن على الإنس والجن‏.‏ فقد قرأ على الجن القرآن‏.‏ وكان إذا خرج إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن‏.‏ ويقرأه على الناس في الصلاة وغير الصلاة‏.‏

قـال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏20 ،21‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏وذكر مثل هذا في غير موضع‏.‏فهو يتلو على المؤمنين آيات اللّه‏.‏

وأبي بن كعب أمر بتخصيصه بالتلاوة عليه لفضيلة أبي واختصاصه بعلم القرآن، كما ثبت في الصحاح عن عمر أنه قال‏:‏ أبي أقرأنا وعلى أقضانا‏.‏

وفي الصحيح أنه قال لابن مسعود‏:‏ ‏(‏اقرأ علي القرآن‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏)‏‏.‏ فقراءة ابن مسعود عليه في هذا الموضع لإسماعه إياه، لا لأجل التصحيح والتلقين‏.‏

وفي معنى قوله تعالى‏:‏ لم يكن هؤلاء وهؤلاء ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين‏:‏

هل المراد لم يكونوا منفكين عن الكفر‏؟‏

أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين عن محمد والتصديق بنبوته حتى بعث‏؟‏

أو المراد أنهم لم يكونوا متروكين حتى يُرسَل إليهم رسول ‏؟‏

/ وممن ذكر هذا أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏، يعني اليهود والنصارى‏.‏ ‏{‏وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏، وهم عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، أي‏:‏ منفصلين وزائلين‏.‏ يقال‏:‏ فككت الشيء فانفك، أي‏:‏ انفصل‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة‏.‏ لفظه لفظ المستقبل ومعناه الماضي‏.‏ والبينة الرسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بين لهم ضلالهم وجهلهم‏.‏ وهذا بيان عن نعمة اللّه على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم به‏.‏

ولفظ البغوي نحو هذا‏.‏ قال‏:‏ لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ ‏[‏منفكين‏]‏ منفصلين زائلين، يقال‏:‏ فككت الشيء فانفك، أي‏:‏ انفصل‏.‏ ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي‏:‏ حتى أتتهم البينة ـ الحجة الواضحة ـ يعني محمدًا أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان‏.‏ فأنقذهم اللّه به من الجهل والضلالة‏.‏

ولم يذكر غير هذا‏.‏

قال أبو الفرج‏:‏ وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية‏:‏ لم يختلفوا أن اللّه يبعث إليهم نبيًا حتى بعث، فافترقوا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لم يكونوا منفكين عن حُجَج اللّه حتى أقيمت عليهم البينة‏.‏

/ قال‏:‏ والوجه هو الأول‏.‏

وذكر الثلاثة أبو محمد بن عطية، لكن الثالث وجهه وقواه، ولم يحكه عن غيره‏.‏ فقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، أي‏:‏ منفصلين متفرقين‏.‏ تقول‏:‏ انفك الشيء عن الشيء إذا انفصل عنه‏.‏

قال‏:‏ و‏[‏ما انفك‏]‏ التي هي من أخوات ‏[‏كان‏]‏ لا مدخل لها في هذه الآية، فبين في هذه أن تكون هذه الصفة منفكة‏.‏

قال‏:‏ واختلف الناس عن ماذا ‏؟‏ فقال مجاهد وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة، وأوقع المستقبل موقع الماضي في ‏{‏تأْتِيَهُمُ‏}‏؛ لأن بأس الشريعة وعِظَمِها لم يجئ بعد‏.‏

وقال الفراء وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكد لأمره، حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك‏.‏

قال‏:‏ وذهب بعض النحويين إلى أن هذا المنفي المتقدم مع ‏[‏منفكين‏]‏، يجعلهم تلك هي مع ‏[‏كان‏]‏، ويروي التقدير في خبرها‏:‏ ‏[‏عارفين أمر محمد‏]‏، أو نحو هذا‏.‏

قال‏:‏ وفي معنى الآية قول ثالث بارع المعنى؛ وذلك أن يكون المراد‏:‏ لم يكونوا هؤلاء منفكين من أمر اللّه وقدرته ونظره لهم حتى / يبعث إليهم رسولا منذرًا تقوم عليهم به الحجة وتتم على من آمن النعمة فكأنه قال‏:‏ ما كانوا يتركوا سدي‏.‏ قال‏:‏ ولهذا المعنى نظائر في كتاب اللّه‏.‏

وقد ذكر الثعلبي ثلاثة أقوال‏.‏ لكن الثالث حكاه عمن جعل مقصوده إهلاكهم بإقامة الحجة وجعل ‏[‏منفكين‏]‏ بمعنى هالكين‏.‏

فقال‏:‏ لم يكونوا منفكين منتهين عن كفرهم وشركهم‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ زائلين‏.‏ تقول العرب‏:‏ ما انفك فلان يفعل كذا، أي‏:‏ مازال‏.‏ وأصل الفك‏:‏ الفتح، ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال‏.‏ ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، الحجة الواضحة، وهو محمد أتاهم بالقرآن، فبين ضلالتهم وجهالتهم‏.‏ ودعاهم إلى الإيمان‏.‏

قال‏:‏ وقال ابن كَيْسان‏:‏ معناه‏:‏ لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد في كتابهم حتى بعث، فلما بعث تفرقوا فيه‏.‏

وقال‏:‏ قال العلماء في أول السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 3‏]‏، حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين‏.‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ‏}‏‏:‏ حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجة عليهم‏.‏

/ قال‏:‏ وقال بعض أئمة اللغة‏:‏ قوله ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، أي هالكين‏.‏ من قولهم‏:‏ انفك صَلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل ولا يلتئم فتهلك‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لم يكونوا هالكين مكذبين إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب‏.‏

وقد ذكر البغوي هذا والأول‏.‏ قال‏:‏ والأول أصح‏.‏

قلت‏:‏ القول الثاني الذي حكاه عن ابن كيسان هو قول الفرَّاء‏.‏ وقد قدمه المْهدَوي على الأول فقال‏:‏ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، مِن ‏[‏انفك الشيء من الشيء‏]‏ إذا فارقه‏.‏ والمعنى‏:‏ لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره وصفته‏.‏ وكفرهم بعد البينات‏.‏ قال‏:‏ ولا يحتاج ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏ على هذا التأويل إلى خبر‏.‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

قال، وقال مجاهد‏:‏ المعنى لم يكونوا منتهين عما هم عليه‏.‏ وعن مجاهد ـ أيضًا ـ‏:‏ لم يكونوا ليؤمنوا حتى تأتيهم البينة‏.‏

قال‏:‏ وقال الفراء‏:‏ لم يكونوا تاركين ذكر ما عندهم من ذكر النبي حتى ظهر‏.‏ فلما ظهر تفرقوا واختلفوا‏.‏

/ قلت‏:‏ هذا المعنى هو الذي قدمه‏.‏ لكن الفراء وابن كَيْسَان جعلا الانفكاك مفارقتهم وتركهم لذكره وخبره والبشارة به‏.‏ أي‏:‏ لم يكونوا مفارقين تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر‏.‏ فانفكوا حينئذ‏.‏ وذاك يقول‏:‏ لم يكونوا منفكين، أي‏:‏ متفرقين‏.‏ إلا إذا جاء الرسول، لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره‏.‏ وهو معنى ما حكاه أبو الفرج‏:‏ لم يختلفوا أن اللّه يبعث إليهم نبيًا حتى بعث، فافترقوا‏.‏

فالانفكاك انفكاك بعضهم عن بعض، أو انفكاكهم عما كان عندهم من علمه وخبره‏.‏ وهذا القول ضعيف ـ لم يرد بهذه الآية قطعًا‏.‏ فإن الله لهم يذكر أهل الكتاب، بل ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب‏.‏ ومعلوم أن المشركين لم يكونوا يعرفونه ويذكرونه ويجدونه في كتبهم، كما كان ذلك عند أهل الكتاب‏.‏ ولا كانوا قبل مبعثه على دين واحد، متفقين عليه‏.‏ فلما جاء تفرقوا‏.‏

فيمتنع أن يقال‏:‏ لم يكن المشركون تاركين لمعرفة محمد وذكره والإيمان به‏.‏ ولم يكونوا مختلفين في ذلك، ولا متفرقين فيه حتى بعث‏.‏ فهذا معنى باطل في المشركين‏.‏

ولا يستقيم هذا ـ أيضًا ـ في أهل الكتاب‏.‏فإن اللّه إنما ذكر الكفار منهم،فقال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ومعلوم أن الذين كانوا يعرفون نبوته ويقرون به ويذكرونه قبل أن يبعث لم يكونوا كلهم كفارًا،بل كان الإيمان أغلب عليهم‏.‏

يبين هذا أنه إذا ذكر تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة، فإنه يعمهم فيقول‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، وأنه لا يقول‏:‏ كان الكفار من أهل الكتاب متفقين على الحق حتى جاءتهم البينة‏.‏

وأيضًا، فاستعمال لفظ ‏[‏الانفكاك‏]‏ في هذا غير معروف، لا يعرف في اللغة له شاهد‏.‏ فتسمية الافتراق والاختلاف ‏[‏انفكاكًا‏]‏ غير معروف‏.‏

وأيضًا، فهو لم يذكر لـ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏ خبرًا كما يقال‏:‏ ما انفكوا يذكرون محمدًا، وما زالوا يؤمنون به، ونحو ذلك‏.‏ وهذه التي هي من أخوات ‏[‏كان‏]‏ لا يقال فيها‏:‏ ‏[‏ما كنت منفكًا‏]‏، بل يقال‏:‏ ‏[‏ما انفككت أفعل كذا‏]‏، فهو يلي حرف ‏[‏ما‏]‏‏.‏

وأيضًا، فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر محمد خاصة‏.‏ وأيضًا، فهذا المعنى مذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ فلو أريد بهذه لكان تكريرًا محضًا‏.‏

والقول الأول أشهر عند المفسرين‏.‏ ومنهم من يذكر غيره، كالبغوي وغيره‏.‏ فإنه معروف عن مجاهد، والربيع بن أنس، كما في التفسير المعروف عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏، قال‏:‏ منافقين، لم يكونوا ليؤمنوا حتى تبين لهم الحق، وقال الربيع بن أنس‏:‏ لم يزالوا مقيمين على الشك والريبة حتى جاءتهم البينة والرسل‏.‏

وهذا القول يتضمن مدحهم والثناء عليهم بعد مجيء البينة؛ ولهذا احتاج من قاله إلى أن يقول‏:‏ هذا فيمن آمن من الفريقين في أنه بيان لنعمة اللّه عليهم‏.‏ وجعلوا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ فيمن لم يؤمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا - أيضًا - ضعيف‏.‏ فإن أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد إليهم، كما أخبـر اللّه بذلك في غير موضع‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 16‏,‏17‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ فأخبر أن الله هدي المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه‏.‏ فكان الاختلاف قبل وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏124‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 93‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏63 ،64‏]‏ فقد أخبر - تعالى - أنه أرسل إلى أمم من قبل محمد، وأن الشيطان زين لهم أعمالهم، وهو - حين يبعث محمد - وليهم، وأنه أنزل إليهم الكتاب ليبين لهم الذي اختلفوا فيه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 76 ،77‏]‏، وقال لأمة محمد‏:‏‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏فهذا بين أنهم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات قبل محمد، وقد نهى الله أمته أن يكونوا مثلهم‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏، وقال عن اليهود‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏‏.‏

وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسند - من وجوه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تفرقت اليهود على إحدي وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة‏)‏‏.‏ وإن كان بعض الناس - كابن حزم - يضعف هذه الأحاديث، فأكثر أهل العلم قبلوها وصدقوها‏.‏

/ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم‏.‏ فإذا نهىتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم‏.‏ فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له‏.‏ الناس لنا فيه تبع - غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى‏)‏‏.‏

وهذا معلوم بالتواتر أن أهل الكتاب اختلفوا وتفرقوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ بل اليهود افترقوا قبل مجيء المسيح، ثم لما جاء المسيح اختلفوا فيه‏.‏ثم اختلف النصارى اختلافا آخر‏.‏

فكيف يقال‏:‏ إن قـوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، هو فيمن لم يؤمن بمحمد منهم‏؟‏

وأيضًا، فالذين كفروا بمحمد كفار، وهم المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهم تفرقوا واختلفوا فيما جاءت به الأنبياء قبل محمد، وكفر من كفر منهم قبل إرسال محمد‏.‏

وكان منهم من لم يكفر، بل كان مؤمنًا بالأنبياء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏، ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113 ،114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حِمَار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم - عربهم وعجمهم - إلا بقايا من أهل الكتاب‏.‏ وإن ربي قال لي‏:‏ قم في قريش فأنذرهم‏.‏ فقلت‏:‏ أي رب، إذًا يَثلَغُوا رأسي حتى يدعوه خبزة‏.‏ فقال‏:‏ إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائمًا ويقظانًا‏.‏ فابعث جندًا نبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك‏)‏، والحديث أطول من هذا‏.‏

/ والمقصود - هنا - الكلام على الآية، فنقول‏:‏ القول الثالث وهو أصح الأقوال لفظًا ومعنى‏.‏

أما من جهة اللفظ ودلالته وبيانه، فإن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان - يعني اختياره - ويقهر عليه إذا تخلص منه‏.‏ يقال‏:‏ انفك منه، كالأسير والرقيق المقهور بالرق والأسر‏.‏ يقال‏:‏ فككت الأسير فانفك، وفككت الرقبة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 ،13‏]‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‏:‏ ‏(‏عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني‏)‏‏.‏ وفي الصحيح ـ أيضًا ـ‏:‏ أن عليا لما سئل عما في الصحيفة فقال‏:‏ فيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏

ففكه‏:‏ فصله عمن يقهره ويستولي عليه بغير اختياره، والتفريق بينهما‏.‏

ويقال‏:‏ فلان ما يفك فلانًا حتى يوقعه في كذا وكذا، والمتولي لا يفك هذا حتى يفعل كذا - يقال لمن لزم غيره واستولي عليه إما بقدرة وقهر، وإما بتحسين وتزيين وأسباب، حتى يصير بها مطيعًا له‏.‏

/ ويقال للمستولَي عليه‏:‏ هو ما ينفك من هذا، كما لا ينفك الأسير والرقيق من المستولِي عليه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏، أي‏:‏ لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم - يفعلون ما يهوونه لا حَجْر عليهم، كما أن المنفك لا حَجْر عليه‏.‏ وهو لم يقل‏:‏ ‏[‏مفكوكين‏]‏ بل قال‏:‏ ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏‏.‏ وهذا أحسن، فإنه نفي لفعلهم‏.‏ ولو قال‏:‏ ‏[‏مفكوكين‏]‏، كان التقدير‏:‏ لم يكونوا مسيبين مخلين، فهو نفي لفعل غيرهم‏.‏ والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين - لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، بل يفعلون ما شاؤوا مما تهواه الأنفس‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله ما يخليهم ولا يتركهم‏.‏ فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏36‏]‏، لا يؤمر ولا ينهى‏.‏ أي‏:‏ أيظن أن هذا يكون‏؟‏ هذا ما لا يكون البتة‏.‏ بل لابد أن يؤمر وينهى‏.‏ وقريب من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3 ،5‏]‏‏.‏ وهذا استفهام إنكار، أي‏:‏ لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل‏.‏ ومن كره إرسالهم‏؟‏

/ فإن الأول تكذيب بوجودهم، والثاني يتضمن بغضهم وكراهة ما جاؤوا به‏.‏قال تعالى‏:‏‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏9‏]‏، وقال عن مؤمن آل فرعون‏:‏‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وأما من كذب بهم بعد الإرسال، فكفره ظاهر‏.‏ ولكن من ظن أن الله لا يرسل إليه رسولا، وأنه يترك سدي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، فهذا - أيضًا - مما ذمه الله، إذا كان لابد من إرسال الرسل وإنزال الكتب، كما أنه - أيضًا - لابد من الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب وقيام القيامة‏.‏

ولهذا ينكر - سبحانه - على من ظن أن ذلك لا يكون، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏27 ،28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85 ،86‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 22‏]‏‏.‏

/وقال عن أولي الألباب‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏، ونحوه في القرآن مما يبين أن الأمر والنهى، والثـواب والعقـاب، والمعاد، مما لابد منه‏.‏ وينكر على من ظن أو حسب أن ذلك لا يكون‏.‏ وهو يقتضي وجوب وقوع ذلك، وأنه يمتنع ألا يقع‏.‏

وهذا متفق عليه بين أهل الملل المصدقين للرسل من المسلمين وغيرهم من جهة تصديق الخبر، فإن الله أخبر بذلك، وخبره صدق‏.‏ فلابد من وقوع مخبره، وهو واجب بحكم وعده وخبره‏.‏ فإنه إذا علم أن ذلك سيكون، وأخبر أنه سيكون، فلابد أن يكون‏.‏ فيمتنع أن يكون شيء على خلاف ما علمه وأخبر به، وكتبه، وقدره‏.‏

وأيضًا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏ ولابد أن يقع كل ماشاءه‏.‏

لكن هل يقال‏:‏ إن المشيئة موجبة‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وكذلك يقال‏:‏ إن ذلك وجب لإيجابه له على نفسه، أو لاقتضاء حكمته ذلك، فيه - أيضًا - نزاع‏.‏

وما أقسم ليفعلنه، فلابد أن يقع‏.‏ والقسم متضمن معنى الخبر، /ومعنى الحض والطلب‏.‏ لكن في ثبوت الثاني في حق الله نزاع بين الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏‏.‏

والذين قالوا إن حكمته، أو حكمه، أو مشيئته، توجب ذلك يقولون‏:‏ إن ذلك قد يعرف بالعقل‏.‏ فيقولون‏:‏ إنه قد يعرف بالعقل أنه لابد من إرسال الرسل‏.‏ وأن ذلك واجب في حكمه وحكمته‏.‏ وهذا قول كثير من الطوائف، أو أكثرهم‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ لا يعلم شيء من ذلك إلا بالخبر، وهذا قول الجهمية والأشعرية‏.‏ وذاك قول المعتزلة، والكَرَّامية، والحنفية، أو أكثرهم‏.‏

وأما أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، فمنهم من يقول بهذا، ولكن جمهور الفقهاء مع السلف يثبتون الحكمة والتعليل‏.‏ وإنما ينفي ذلك منهم من وافق الجهمية المجبرة‏.‏ كالأشعري ومن وافقه‏.‏

وكذلك جمهورهم يثبتون للأفعال صفات بها كانت حسنة أو سيئة قبيحة‏.‏لا يجعلون حسنها وقبحها ترجيحًا لأحد الأمرين بلا مرجح بل لمحض المشيئة، كما تقوله الجهمية ومن وافقهم‏.‏

/ هذا قول الأئمة والجمهور، كما أن الأئمة والجمهور على إثبات القدر والإيمان به، وأن الله خالق كل شـيء، وأنه ما شـاء كان، وما لم يشـأ لم يكن‏.‏ لا يقــولون بقــول من أنكر القدر من المعتزلة ونحوهم، ولا بقول من أنكر حكمة الرب من الجهمية المجبرة ونحوهم‏.‏

فلا يقولون بقول القدرية النفاة للقدر، ولا بقول القدرية المجبرة الذين يستلزم قولهم إنكار الأمر والنهى، والوعد والوعيد، والجزاء بالثواب والعقاب، لا سيما من أفصح منهم بذلك، أو قال‏:‏ إن من شهد القدر سقط عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد‏.‏

فآمنوا بما جاءت به الرسل في الجملة، وأوجبوا ما أوجبه الله، وحرموا ما حرمه الله، وآمنـوا بالجنـة والنار، واجتهـدوا في متابعة الرسل‏.‏ لكن أخطؤوا حيث نفوا القدر، وظنوا أن إثباته يناقض الأمـر والنهى والوعـد والوعيـد، وأنـه لا يتم إيمانهم بـأن الله عـادل صادق حتى يكذبوا بالقـدر، وبإخراج أهـل الكبائر مـن النار ظنًـا منهم أن الله أخبر بأن كل مـن كـان له ذنب يستحق بـه العذاب لا يخرجه من النار،ولا يرحمه أبدًا‏.‏ فلم يجوزوا أن يعذب بذنبه ثم يرحم، بل عندهم من كان له ذنب يستحق به العذاب لم يرحم أبدًا‏.‏

وهم - وإن كانوا لم يتعمدوا تكذيب الرسل - فقولهم هذا يتضمن / مخالفة الأخبار المتواترة عند أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج أهل الذنوب من النار،وشفاعة الشفعاء فيهم‏.‏ ويتضمن أنهم آيســوا الخلـق من رحمة الله - مع تكذيبهـم بعمـوم خلق الله، ومشيئته وقدرته - حيث زعموا أن من الحوادث ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه، ولا يخلقه‏.‏

وتشبهوا بالمجوس من هذا الوجه، حتى قيل‏:‏ القدرية مجوس هذه الأمة‏.‏

وقابلهم أولئك، فتوقفوا في خبر الله مطلقًا، حتى أنكروا صِنْفَي العموم، فلم يعلموا بخبره ما أخبر به من الوعد والوعيد‏.‏

فلا يجزمون بالنجاة للصِّنف الذين يعلم الله أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وكانوا من أعظم الناس طاعة لله، إذا كان لأحدهم سيئة واحدة صغيرة‏.‏ ولا بالعذاب للصنف الذين يعلم الله أنهم أفجر أهل القبلة وشرها؛ بل يجوزون مع علم الله بهذا وبهذا أن يعذب أهل الحسنات الكبيرة على سيئة صغيرة عذابًا ما يعذبه أحدًا من أهل القبلة، وأن يدخل فجار أهل القبلة الجنة مع السابقين الأولين‏.‏

وبسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء له مقام آخر‏.‏

/ والمقصود - هنا - أن هذه السورة دلت على ما تدل عليه مواضع أخر من القرآن‏.‏ من أن الله يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم - يرسلهم مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏48‏]‏، ينذرون الذين أساؤوا عقوبات أعمالهم، ويبشرون الذين آمنوا وعملوا الصاحات بالنعيم المقيم، و ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏2 ،3‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏، بيان منه أن الكفار لم يكن الله ليدعهم ويتركهم على ما هم عليه من الكفر، بل لا يفكهم حتى يرسل إليهم الرسول بشيرًا ونذيرًا ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 31‏]‏

ومما يبين ذلك‏:‏ أن ‏[‏حتى‏]‏ حرف غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ يَطْهُرْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، ونظائر ذلك‏.‏

فلو أريد أنهم لم يكونوا منتهين ويؤمنون حتى يتبين لهم الحق لزم أن يكونوا كلهم بعد مجيء البينة قد انتهوا وآمنوا‏.‏ فإن اللفظ عام فيهم‏.‏

/ وكذلك لو كان المراد أنهم كانوا متفقين على تصديق الرسول حتى بعث، لزم أن يكونوا كلهم كانوا يعرفونه قبل إرساله إليهم، وأنهم كلهم بعد إرساله تفرقوا واختلفوا‏.‏ وكلاهما باطل‏.‏ فكثير منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ولم يكونوا يعرفون ما في الكتب من بعثه ومن أمور أخر‏.‏ ولما بعث، فقد آمن به خلق كثير منهم، ولم يتفرقوا كلهم عن الإيمان به‏.‏

وحينئذ، فالآية لم تتضمن مدحهم مطلقًا‏.‏ كما ظن من ظن أن معناها أنهم لم ينتهوا ولم يؤمنوا حتى يتبين لهم الحق‏.‏ ولا تتضمن ذمهم مطلقًا، كما ظن من ظن أنهم لما جاءهم الرسول تفرقوا واختلفوا بعد ما كانوا متفقين على التصديق، بل تضمنت مدح من آمن منهم بالرسول، وذم من لم يؤمن، والإخبار أنه لابد من إرسال الرسول إليهم، فيؤمن به بعضهم ويكفر بعض‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏

/ ثم إن الذين آمنوا بالرسل لابد أن يمتحنهم ليُمَيِّز بين الصادق والكاذب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏2، 3‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فالناس إذا أرسل إليهم أحد رجلين؛ إما رجل آمن بهم في الظاهر، فلابد أن يمتحن حتى يتبين الصادق من الكاذب‏.‏ وإما رجل عمل السيئات ولم يؤمن، فلا يفوت الله، بل هو آخذه - سبحانه وتعالى‏.‏

ولهذا انقسم الناس في الرسل إلى ثلاثة أقسام‏:‏ مؤمن باطن وظاهر، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإيمان مبطن للكفر‏.‏ ومن حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حصل هذا الانقسام، وأنزل الله تعالى في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين‏.‏

وأما حين كان بمكة وكان المؤمنون مستضعفين، فلم يكن أحد يحتاج إلى النفاق، بل كان من المؤمنين من يكتم إيمانه من كثير من الناس‏.‏ / ومنهم من يتكلم بالكفر مكرهًا مع طمأنينة قلبه بالإيمان‏.‏ وهذا مؤمن باطنًا وظاهرًا‏.‏ فإنه وإن أظهر الكفر لبعض الناس لما أكره عليه، أو كتم عنه إيمانه، فهو يتكلم بالإيمان في خلوته ومع من يأمنه، ويعمل بما يمكنه، وما عجز عنه فقد سقط عنه‏.‏

ولهذا قال العلماء ـ منهم أحمد بن حنبل ـ‏:‏لم يكن يمكنهم نفاق،إنما كان النفاق بالمدينة‏.‏

ولكن كان بمكة من في قلبه مرض، كما قال في السورة المكية‏:‏ ‏{‏وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏

وهو - سبحانه - قد ذكر أن المظهرين للإيمان ما كان ليدعهم حتى يميز الخبيث من الطيب ويمتحنهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 16‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏

/ فكذلك الذين كفروا، لم يكن ليتركهم حتى يبعث إليهم الرسول بالآيات البينات‏.‏ فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهم إذا جاءتهم البينة، منهم من يؤمن، ومنهم من يكفر‏.‏

وإذا قيل‏:‏ إن الآية تتضمن بعد ذلك المعنى الآخر، وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البينة؛ إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله ـ أيضًا، أو لم يكونوا منتهين متعظين - وإن عرفوا الحق - حتى يأتيهم من الله من يذكرهم، فهذا المعنى لا يناقض ذاك‏.‏

بخلاف قول من قال‏:‏ لم يكن المشركون وأهل الكتاب تاركين لمعرفة محمد ولذكره، ولم يكونوا متفرقين فيه، بل متفقين على الإيمان به، حتى جاءتهم البينة، فتركوا الإيمان به وتفرقوا‏.‏ فإن هذا غير مراد قطعًا‏.‏

ومما يبين ذلك قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏حتى أتتهم‏]‏‏.‏ وأولئك لما لم يفهموا معنى الآية ظنوا أن الموضع موضع الماضي، وأن المراد‏:‏ ما انفكوا عما كانوا عليه ـ إما من كفر، وإما من إيمان ـ حتى أتتهم البينة‏.‏ فلما قيل‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ أشكل عليهم‏.‏ وقال / بعضهم‏:‏ لما تأتهم كلها‏.‏

وأما على المعنى الصحيح، فالموضع موضع المضارع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏‏.‏ فإن المراد‏:‏ ما كانوا مفكوكين متروكين حتى تأتيهم البينة‏.‏

وهـو - سبحانـه - قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏ و‏[‏لم‏]‏ وإن كانت تقلب المضارع ماضيًا فـذاك إذا تجـرد، فقيـل‏:‏ ‏[‏لم يـأت‏]‏، و‏[‏لم يـذهب‏]‏ فمعناه‏:‏ ‏[‏مـا أتي‏]‏ و‏[‏مـا ذهب‏]‏

وأما إذا قيل‏:‏ ‏[‏لم يكن يفعل هذا‏]‏، و ‏{‏لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، فالمقصود معنى الفعل الدائم مطلقًا‏.‏ وإذا قيل‏:‏ ‏[‏لم يكن فلان آتيًا حتى يذهب إليه فلان‏]‏، بخلاف ما إذا قلت‏:‏ ‏[‏لم يكن فلان قد أتي حتى ذهب إليه فلان‏]‏‏.‏ ولو قيل‏:‏ ‏[‏ما كان فلان فاعلا لهذا حتى يكون كذا‏]‏ كان نحو ذاك، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ ‏[‏ما كان فلان قد فعل حتى أتى فلان‏]‏

فنفي المضارع الذي خبره اسم فاعل، وهو الدائم‏.‏ والمراد‏:‏ لم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البينة‏.‏ ولو قيل ـ هنا ـ‏:‏ ‏[‏حتى أتتهم البينة‏]‏، لم يكن موضعه‏.‏

/ وكذلك لو أراد الانتهاء عن الكفر والإيمان، لقيل‏:‏‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ أي‏:‏لم يكونوا يعرفون الحق حتى يأتيهم نبي يعرفهم،أو لم يكونوا متعظين عاملين حتى يأتي من يعظهم ويذكرهم‏.‏ فليس هذا موضع الماضي، بخلاف ما لو قيل‏:‏ ‏[‏مازالوا كافرين حتى أتاهم‏]‏‏.‏

فالآية تتضمن الإخبار عن وجوب إثبات البينة، وامتناع الانفكاك بدونها‏.‏ لم يقصد بها مجرد الخبر عن عدم الانفكاك ثم ثبوته في الماضي‏.‏ وهو كما لو قيل‏:‏ ‏[‏لم يكونوا ينفكوا حتى تأتيهم البينة‏]‏، لكن ـ هنا ـ ذكر اسم الفاعلين، فقيل‏:‏ ‏[‏منفكين‏]‏‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ لما ذكر أنه لابد من إرسال الرسل إلى الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب لتقوم عليهم الحجة بذلك، ذكر بعد هذا أن أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل، ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة‏.‏ فبينات الله وحجته قامت على هؤلاء وهؤلاء‏.‏

وهو لم يعذب واحدًا من الحزبين إلا بعد أن جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة، كما في قصة موسي ومن أرسل إليه‏.‏ فإن الله لم يدع فرعون وقومه حتى أرسل إليهم موسي، ولم يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة‏.‏ ثم لما آمن بنو إسرائيل بالكتب والرسل، لم يتفرقوا ويختلفوا إلا من / بعد ما جاءتهم البينة‏.‏ فلم يكونوا معذورين في ذلك‏.‏

ولهذا نهيت أمة محمد عن التشبه بهم، فقيل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏105‏]‏‏.‏

والناس الذين بعث إليهم محمد، هم كذلك‏.‏ فمن كان كافرًا لم يكن منفكًا حتى تأتيه البينة، ومن آمن بمحمد من الأمم ثم تفرقوا واختلفوا، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏.‏

وما أمر الجميع ‏{‏إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.‏

والآية تضمنت مدح الرب وذكر حكمته وعدله وحجته في أنه لا يدعهم حتى يرسل إليهم رسولًا، كما قال لأهل الكتاب‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏، لم تتضمن مدحهم على بقائهم على الكفر حتى يأتي الرسول‏.‏ فإن هذا غايته ألا يعاقبوا عليه حتى يأتي الرسول، لا أن يحمدوا عليه حتى يأتي الرسول‏.‏ فإن هذا لا يقوله عاقل، ولم يقله أحد، لا سيما وأهل الكتاب قد قامت عليهم الحجة بأنبياء قبله‏.‏

/ ونظير هذا في اللفظ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏‏.‏ ليس المراد‏:‏ ما كنتم بالغيه في الماضي، بل هذه حالهم دائمًا‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ٍ‏}‏ يقتضي أن هذه حالهم دائمًا‏.‏

وتضمنت السورة ذكر أصناف الخلق، وما أمر الله به جميع العباد،وأن ذلك أمر لابد منه ـ لابد من إرسال الرسل،وإنزال الكتب،وبيان السعداء أهل الجنة، والأشقياء أهل النار‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً‏}‏، جملة، فيه بيان إرسال الرسول إلى الجميع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، فيه إقامة الحجة على أهل الشرائع، وذم تفرقهم واختلافهم، وأن ذلك بعد أن جاءتهم البينة‏.‏

وهاتان الجملتان نظيرهما قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏‏.‏

ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏، في سورة ‏[‏هود‏:‏110‏]‏‏.‏

ثم ذكر ما أمر به الجميع بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.‏

ثم ذكر عاقبة الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وعاقبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏